كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فصل:
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْكَلَامُ عَلَى قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي، أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ شَاكِرًا مُسْتَغْفِرًا. وَقَدْ ذَكَرَ: أَنَّ الشَّرَّ لَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ، إلَّا عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْفَاتِحَةُ لِلْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ هُوَ سُبْحَانَهُ الرَّحْمَنُ الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أَنَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا» وَقَدْ سَبَقَتْ وَغَلَبَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، الْحَلِيمُ الرَّحِيمُ. فَإِرَادَتُهُ: أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ وَنِعْمَةٍ، وَكُلُّ خَيْرٍ وَنِعْمَةٍ فَمِنْهُ {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}. وَقَدْ قَالَ سبحانه: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ثُمَّ قال: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} وَقَالَ تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَالْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ مِنْ صِفَاتِهِ الْمَذْكُورَةِ بِأَسْمَائِهِ. فَهِيَ مِنْ مُوجِبِ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ، وَمُقْتَضَاهَا وَلَوَازِمِهَا. وَأَمَّا الْعَذَابُ: فَمِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، الَّذِي خَلَقَهُ بِحِكْمَةِ، هُوَ بِاعْتِبَارِهَا حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ. فَالْإِنْسَانُ لَا يَأْتِيهِ الْخَيْرُ إلَّا مِنْ رَبِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ. وَلَا يَأْتِيهِ الشَّرُّ إلَّا مِنْ نَفْسِهِ. فَمَا أَصَابَهُ مِنْ حَسَنَةٍ: فَمِنْ اللَّهِ. وَمَا أَصَابَهُ مِنْ سَيِّئَةٍ: فَمِنْ نَفْسِهِ. وَقوله: {وَمَا أَصَابَكَ} إمَّا أَنْ تَكُونَ كَافُ الْخِطَابِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ- وَهُوَ الْأَظْهَرُ. لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِك {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا}. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآدَمِيِّينَ، كَقوله: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}. لَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ. فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمُ هُنَا ذِكْرُ الْإِنْسَانِ وَلَا مَكَانُهُ. وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ طَائِفَةٍ قَالُوا مَا قَالُوهُ. فَلَوْ أُرِيدَ ذِكْرُهُمْ: لَقِيلَ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَهُمْ مِنْ سَيِّئَةٍ. لَكِنْ خُوطِبَ الرَّسُولُ بِهَذَا، لِأَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ. وَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمَهُ: كَانَ هَذَا حُكْمَ غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. كَمَا فِي مِثْلِ قوله: {اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}، وَقَوِلِهِ تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وَقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}. ثُمَّ هَذَا الْخِطَابُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَخْتَصُّ لَفْظُهُ بِهِ لَكِنْ يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، كَقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} ثُمَّ قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}. وَنَوْعٌ: قَدْ يَكُونُ خِطَابُهُ خِطَابًا بِهِ لِجَمِيعِ النَّاسِ، كَمَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يُخَاطَبْ بِذَلِك. بَلْ هُوَ الْمُقَدَّمُ. فَالْخِطَابُ لَهُ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْجَنْسِ الْبَشَرِيِّ. وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَقَعُ مِنْهُ مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَلَا يَتْرُكُ مَا أُمِرَ بِهِ. بَلْ هَذَا يَقَعُ مِنْ غَيْرِهِ. كَمَا يَقُولُ وَلِيُّ الْأَمْرِ لِلْأَمِيرِ: سَافِرْ غَدًا إلَى الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ. أَيْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَك مِنْ الْعَسْكَرِ. وَكَمَا يَنْهَى أَعَزَّ مَنْ عِنْدَهُ عَنْ شَيْءٍ. فَيَكُونُ نَهْيًا لِمَنْ دُونَهُ. وَهَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ الْخِطَابِ. فَقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} الْخِطَابُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَمِيعُ الْخَلْقِ دَاخِلُونَ فِي هَذَا الْخِطَابِ بِالْعُمُومِ، وَبِطَرِيقِ الْأَوْلَى. بِخِلَافِ قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} فَإِنَّ هَذَا لَهُ خَاصَّةٌ. وَلَكِنْ مَنْ يُبَلِّغُ عَنْهُ يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْخِطَابِ. كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» وَقَالَ «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ» وَقَالَ «لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» وَقَالَ «إنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: {وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْحَسَنَةَ مُضَافَةٌ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. والسَّيِّئَةَ مُضَافَةٌ إلَيْهِ لِأَنَّهُ خَلَقَهَا. كَمَا خَلَقَ الْحَسَنَةَ فَلِهَذَا قال: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. ثُمَّ إنَّهُ إنَّمَا خَلَقَهَا لِحِكْمَةِ. وَلَا تُضَافُ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا سَيِّئَةٌ، بَلْ تُضَافُ إلَى النَّفْسِ الَّتِي تَفْعَلُ الشَّرَّ بِهَا لَا لِحِكْمَةِ. فَتَسْتَحِقُّ أَنْ يُضَافَ الشَّرُّ وَالسَّيِّئَةُ إلَيْهَا. فَإِنَّهَا لَا تَقْصِدُ بِمَا تَفْعَلُهُ مِنْ الذُّنُوبِ خَيْرًا يَكُونُ فِعْلُهُ لِأَجْلِهِ أَرْجَحَ. بَلْ مَا كَانَ هَكَذَا فهو من بَابِ الْحَسَنَاتِ. وَلِهَذَا كَانَ فِعْلُ اللَّهِ حَسَنًا. لَا يَفْعَلُ قَبِيحًا وَلَا سَيِّئًا قَطُّ. وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا سَيِّئَاتُ الْجَزَاءِ وَالْعَمَلِ. لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} و{مِنْ سَيِّئَةٍ} النِّعَمِ وَالْمَصَائِبِ، كَمَا تَقَدَّمَ. لَكِنْ إذَا كَانَتْ الْمُصِيبَةُ مِنْ نَفْسِهِ- لِأَنَّهُ أَذْنَبَ- فَالذَّنْبُ مِنْ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
فَالسَّيِّئَاتُ مِنْ نَفْسِهِ بِلَا رَيْبٍ. وَإِنَّمَا جَعَلَهَا مِنْهُ مَعَ الْحَسَنَةِ بِقَوْلِهِ: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} كَمَا تَقَدَّمَ. لِأَنَّهَا لَا تُضَافُ إلَى اللَّهِ مُفْرَدَةً. بَلْ فِي الْعُمُومِ، كَقوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. وَكَذَلِك الْأَسْمَاءُ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الشَّرِّ، لَا تُذْكَرُ إلَّا مَقْرُونَةً، كَقَوْلِنَا الضَّارُّ النَّافِعُ، الْمُعْطِي الْمَانِعُ، الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ أَوْ مُقَيَّدَةً، كَقوله: {إنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}. وَكُلُّ مَا خَلَقَهُ- مِمَّا فِيهِ شَرٌّ جُزْئِيٌّ إضَافِيٌّ- فَفِيهِ مِنْ الْخَيْرِ الْعَامِّ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ أَضْعَافُ ذَلِك. مِثْلُ إرْسَالِ مُوسَى إلَى فِرْعَوْنَ. فَإِنَّهُ حَصَلَ بِهِ التَّكْذِيبُ وَالْهَلَاكُ لَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. وَذَلِك شَرٌّ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِمْ. لَكِنْ حَصَلَ بِهِ- مِنْ النَّفْعِ الْعَامِّ لِلْخَلْقِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالِاعْتِبَارِ بِقِصَّةِ فِرْعَوْنَ- مَا هُوَ خَيْرٌ عَامٌّ. فَانْتَفَعَ بِذَلِك أَضْعَافُ أَضْعَافُ مَنْ اسْتَضَرَّ بِهِ. كَمَا قَالَ تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِ: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى}. وَكَذَلِك مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَقِيَ بِرِسَالَتِهِ طَائِفَةٌ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمْ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ، وَأَهْلَكَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِسَبَبِهِ. وَلَكِنْ سَعِدَ بِهَا أَضْعَافُ أَضْعَافُ هَؤُلَاءِ. وَلِذَلِك مَنْ شَقِيَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا مُبَدِّلِينَ مُحَرَّفِينَ قَبْل أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَهْلَكَ اللَّهُ بِالْجِهَادِ طَائِفَةً. وَاهْتَدَى بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَضْعَافُ أَضْعَافُ أُولَئِكَ. وَاَلَّذِينَ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقَهْرِ وَالصَّغَارِ، أَوْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَحْدَثَ فِيهِمْ الصَّغَارَ، فَهَؤُلَاءِ كَانَ قَهْرُهُمْ رَحْمَةً لَهُمْ. لِئَلَّا يَعْظُمَ كُفْرُهُمْ، وَيَكْثُرَ شَرُّهُمْ. ثُمَّ بَعْدَهُمْ حَصَلَ مِنْ الْهُدَى وَالرَّحْمَةِ لِغَيْرِهِمْ مَا لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ. وَهُمْ دَائِمًا يَهْتَدِي مِنْهُمْ نَاسٌ مِنْ بَعْدِ نَاسٍ بِبَرَكَةِ ظُهُورِ دِينِهِ بِالْحُجَّةِ وَالْيَدِ. فَالْمَصْلَحَةُ بِإِرْسَالِهِ وَإِعْزَازِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ، فِيهَا مِنْ الرَّحْمَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بِذَلِك مَالآنسْبَةَ لَهَا إلَى مَا حَصَلَ بِذَلِك لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ شَرٍّ جُزْئِيٍّ إضَافِيٍّ، لِمَا فِي ذَلِك مِنْ الْخَيْرِ وَالْحِكْمَةِ أَيْضًا. إذْ لَيْسَ فِيمَا خَلَقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شَرٌّ مَحْضٌ أَصْلًا، بَلْ هُوَ شَرٌّ بِالْإِضَافَةِ.
فصل:
الْفَرْقُ الْخَامِسُ:
أَنَّ مَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ الْحَسَنَاتِ الَّتِي يَعْمَلُهَا كُلَّهَا أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ. أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ، وَحَصَلَتْ بِمُشِيئَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ، لَيْسَ فِي الْحَسَنَاتِ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى اللَّهِ. بَلْ كُلُّهَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. وَكُلُّ مَوْجُودٍ وَحَادِثٍ فَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْدِثُهُ. وَذَلِك: أَنَّ الْحَسَنَاتِ إمَّا فِعْلٌ مَأْمُورٌ بِهِ، أَوْ تَرْكٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَالتَّرْكُ: أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. فَتَرْكُ الْإِنْسَانِ لِمَا نُهِيَ عَنْهُ، وَمُعْرِفَتُهُ بِأَنَّهُ ذَنْبٌ قَبِيحٌ، وَبِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعَذَابِ، وَبُغْضُهُ وَكَرَاهَتُهُ لَهُ، وَمَنْعُ نَفْسِهِ مِنْهُ إذَا هَوِيَتْهُ، وَاشْتَهَتْهُ وَطَلَبَتْهُ. كُلُّ هَذِهِ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ. كَمَا أَنَّ مُعْرِفَتَهُ بِأَنَّ الْحَسَنَاتِ- كَالْعَدْلِ وَالصِّدْقِ- حَسَنَةٌ، وَفِعْلَهُ لَهَا أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ. وَلِهَذَا إنَّمَا يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنَاتِ إذَا فَعَلَهَا مُحِبًّا لَهَا بِنِيَّةِ وَقَصَدَ فِعْلَهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ. وَطَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَيُثَابُ عَلَى تَرْكِ السَّيِّئَاتِ إذَا تَرَكَهَا بِالْكَرَاهَةِ لَهَا، وَالِامْتِنَاعِ مِنْهَا. قَالَ تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} وَقَالَ تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} وَقَالَ تعالى: {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ«ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ. وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ- بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ- كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ». وَفِي السُّنَنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ: الْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ». وَفِيهَا عَنْ أَبِي أمامة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ». وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ. وَذَلِك أَضْعَفُ الْإِيمَانِ». وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا ذَكَرَ الْخُلُوفَ- قَالَ «مَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِك مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» وَقَدْ قَالَ تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}.
وَقَالَ عَلَى لِسَانِ الْخَلِيلِ {إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} وَقال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَقال: {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فَهَذَا الْبُغْضُ وَالْعَدَاوَةُ وَالْبَرَاءَةُ مِمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمِنْ عَابِدِيهِ: هِيَ أُمُورٌ مَوْجُودَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَعَلَى اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ، كَمَا أَنَّ حُبَّ اللَّهِ وَمُوَالَاتَهُ وَمُوَالَاةَ أَوْلِيَائِهِ: أُمُورٌ مَوْجُودَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَعَلَى اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ. وَهِيَ تَحْقِيقُ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَهُوَ إثْبَاتُ تَأْلِيهِ الْقَلْبِ لِلَّهِ حُبًّا خَالِصًا وَذُلًّا صَادِقًا. وَمَنْعُ تَأْلِيهِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَبُغْضُ ذَلِك وَكَرَاهَتُهُ. فَلَا يَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ. وَيُحِبُّ أَنْ يَعْبُدَهُ، وَيُبْغِضُ عِبَادَةَ غَيْرِهِ وَيُحِبُّ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَخَشْيَتَهُ وَدُعَاءَهُ وَيُبْغِضُ التَّوَكُّلَ على غَيْرِهِ وَخَشْيَتَهُ وَدُعَاءَهُ. فَهَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ مَوْجُودَةٌ فِي الْقَلْبِ. وَهِيَ الْحَسَنَاتُ الَّتِي يُثِيبُ اللَّهُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا مُجَرَّدُ عَدِمِ السَّيِّئَاتِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهَا سَيِّئَةٌ، وَلَا يَكْرَهُهَا، بَلْ لَا يَفْعَلُهَا لِكَوْنِهَا لَمْ تَخْطِرْ بِبَالِهِ، أَوْ تَخْطِرُ كَمَا تَخْطِرُ الْجَمَادَاتُ الَّتِي لَا يُحِبُّهَا وَلَا يُبْغِضُهَا- فَهَذَا لَا يُثَابُ عَلَى عَدِمِ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ. وَلَكِنْ لَا يُعَاقَبُ أَيْضًا عَلَى فِعْلِهَا. فَكَأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهَا. فَهَذَا تَكُونُ السَّيِّئَاتُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَتِهَا فِي حَقِّ الطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ وَالْبَهِيمَةِ. لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ. وَلَكِنْ إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِعِلْمِهِ تَحْرِيمَهَا. فَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ تَحْرِيمَهَا وَيَكْرَهَا وَإِلَّا عُوقِبَ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِتَحْرِيمِهَا.
فصل:
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي التَّرْكِ: هَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَوْ عَدَمِيٌّ؟. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ وُجُودِيٌّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ- كَأَبِي هَاشِمِ بْنِ الْجِبَائِيِّ- إنَّهُ عَدَمِيٌّ وَأَنَّ الْمَأْمُورَ يُعَاقَبُ عَلَى مُجَرَّدِ عَدِمِ الْفِعْلِ، لَا عَلَى تَرْكٍ يَقُومُ بِنَفْسِهِ. وَيُسَمُّونَ المذمية لِأَنَّهُمْ رَتَّبُوا الذَّمَّ عَلَى الْعَدِمِ الْمَحْضِ. وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ: التَّرْكُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. فَلَا يُثَابُ مَنْ تَرَكَ الْمَحْظُورَ إلَّا عَلَى تَرْكٍ يَقُومُ بِنَفْسِهِ. وَتَارِكُ الْمَأْمُورِ: إنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكٍ يَقُومُ بِنَفْسِهِ. وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفِعْلِ فَيَمْتَنِعُ. فَهَذَا الِامْتِنَاعُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. وَلِذَلِك فَهُوَ يَشْتَغِلُ عَمَّا أُمِرَ بِهِ بِفِعْلِ ضِدِّهِ، كَمَا يَشْتَغِلُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ. فَيُعَاقَبُ عَلَى ذَلِك. وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ لَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ وَحْدَهُ، فَلابد أَنْ يَكُونَ عَابِدًا لِغَيْرِهِ. يَعْبُدُ غَيْرَهُ فَيَكُونُ مُشْرِكًا. وَلَيْسَ فِي بَنِي آدَمَ قِسْمٌ ثَالِثٌ. بَلْ إمَّا مُوَحِّدٌ، أَوْ مُشْرِكٌ، أَوْ مَنْ خَلَطَ هَذَا بِهَذَا كَالْمُبَدِّلِينَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ: النَّصَارَى وَمَنْ أَشَبَهَهُمْ مِنْ الضُّلَّالِ، الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} وَقَدْ قَالَ تعالى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} لَمَّا قَالَ إبْلِيسُ {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} قَالَ تعالى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}. فَإِبْلِيسُ لَا يُغْوِي الْمُخْلَصِينَ. وَلَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ. إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الْغَاوِينَ. وَهُمْ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَهُمْ الَّذِينَ بِهِ مُشْرِكُونَ.
وَقوله: {الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} صِفَتَانِ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ. فَكُلُّ مَنْ تَوَلَّاهُ فَهُوَ بِهِ مُشْرِكٌ، وَكُلُّ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ فَقَدْ تَوَلَّاهُ. قَالَ تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}. وَكُلُّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ فَإِنَّمَا يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ، وَإِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ. وَقَالَ تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}. وَلِهَذَا تَتَمَثَّلُ الشَّيَاطِينُ لِمَنْ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَيُخَاطِبُونَهُمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّ الَّذِي خَاطَبَهُمْ مَلَكٌ أَوْ نَبِيٌّ، أَوْ وَلِيٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ، جَعَلَ نَفْسَهُ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا يُصِيبُ عُبَّادُ الْكَوَاكِبِ وَأَصْحَابُ الْعَزَائِمِ وَالطَّلْسَمَاتِ. يُسَمُّونَ أَسَمَاءً، يَقُولُونَ: هِيَ أَسَمَاءُ الْمَلَائِكَةِ مِثْلَ منططرون وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَسَمَاءُ الْجِنِّ. وَكَذَلِك الَّذِينَ يَدْعُونَ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ قَدْ يَتَمَثَّلُ لِأَحَدِهِمْ مَنْ يُخَاطِبُهُ، فَيَظُنُّهُ النَّبِيُّ، أَوْ الصَّالِحُ الَّذِي دَعَاهُ. وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَصَوَّرَ فِي صُورَتِهِ، أَوْ قَالَ: أَنَا هُوَ، لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ صُورَةَ ذَلِك الْمَدْعُوِّ. وَهَذَا كَثِيرٌ يَجْرِي لِمَنْ يَدْعُو الْمَخْلُوقِينَ، مِنْ النَّصَارَى وَمِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ يَدْعُونَهُمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ، أَوْ مَغِيبِهِمْ. وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ. فَيَأْتِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ ذَلِك الْمُسْتَغَاثُ بِهِ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ إمَّا رَاكِبًا، وَإِمَّا غَيْرَ رَاكِبٍ. فَيَعْتَقِدُ الْمُسْتَغِيثُ: أَنَّهُ ذَلِك النَّبِيَّ، أَوْ الصَّالِحَ، أَوْ أَنَّهُ سِرُّهُ، أَوْ رُوحَانِيَّتُهُ، أَوْ رَقِيقَتُهُ أَوْ الْمَعْنَى تَشَكَّلَ، أو يَقُولُ: إنَّهُ مَلَكٌ جَاءَ عَلَى صُورَتِهِ. وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ يُغْوِيهِ، لِكَوْنِهِ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ وَدَعَا غَيْرَهُ: الْمَيِّتَ فَمَنْ دُونَهُ. فَصَارَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ بِذَلِك الشِّرْكِ. فَظَنَّ أَنَّهُ يَدْعُو النَّبِيَّ، أَوْ الصَّالِحَ، أَوْ الْمَلَكَ. وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي شَفَعَ لَهُ، أَوْ هُوَ الَّذِي أَجَابَ دَعْوَتَهُ. وَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ، لِيَزِيدَهُ غُلُوًّا فِي كُفْرِهِ وَضَلَالِهِ. فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، فَلابد أَنْ يَكُونَ مُشْرِكًا عَابِدًا لِغَيْرِ اللَّهِ. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ: عَابِدٌ لِلشَّيْطَانِ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إمَّا عَابِدٌ لِلرَّحْمَنِ، وَإِمَّا عَابِدٌ لِلشَّيْطَانِ. قَالَ تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} وَقَالَ تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. فَبَنُو آدَمَ مُنْحَصِرُونَ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ.